سوريا بعد الثورة- فرص، تحديات، وآفاق النهضة

المؤلف: د. محسن محمد صالح09.27.2025
سوريا بعد الثورة- فرص، تحديات، وآفاق النهضة

تنفرد الثورة السورية بكونها الشرارة الأولى لثورة متكاملة الأركان منذ بزوغ فجر "الربيع العربي"، كما أنها تمثل منعطفًا حاسمًا نحو تغييرات جوهرية في صلب النظام، مما يفسح المجال أمام انطلاقة نهضوية شاملة ومستدامة.

إلا أن هذه الثورة المباركة تواجه تحديات عسيرة ومخاطر جمة، بعضها ينبع من الداخل، وتتفاقم حدتها نظرًا لموقع سوريا الاستراتيجي المتميز، وثرواتها الوفيرة، وكونها خط المواجهة، وتداخل المصالح الإقليمية والدولية المتضاربة على أراضيها.

عناصر قوة سانحة وفرص واعدة

تتجلى أبرز عناصر القوة التي يتمتع بها نظام الحكم الجديد في دمشق في امتلاكه "للثلاثي الذهبي"، الذي يرتكز عليه بناء الدولة وإرساء دعائم نظام جديد، ويتمثل في: العدالة الانتقالية الناجزة، والقدرات العسكرية الرادعة، والقوة الناعمة المؤثرة. بالإضافة إلى ذلك، تلوح في الأفق فرص ثمينة تدفع بوتيرة متسارعة نحو تحقيق أهداف الثورة المنشودة:

أولًا: العدالة الانتقالية الشاملة

حيث يمكن من خلال تفعيلها إنشاء محاكم ثورية نزيهة ونظام قضائي متخصص، مهمته الأساسية تفكيك "الدولة العميقة" التي عاثت فسادًا، ومحاسبة أو تحييد رموزها المتورطين، ومنعهم من عرقلة مسيرة الثورة، أو إفراغها من قيمها النبيلة، أو تشويه صورتها المشرقة، أو تحريف مسارها الصحيح، أو العودة إلى الواجهة تحت مسميات جديدة ملتوية.

ولا بد من إرساء معادلة متوازنة تتسم بالحكمة والحزم في آنٍ واحد، تسمح بخلق أجواء من التسامح والتصالح، وطي صفحة الماضي بكل ما حملته من آلام، وتجاوز العصبيات الطائفية والعرقية المقيتة؛ ولكنها في الوقت نفسه تستأصل "أكابر المجرمين" المتورطين في جرائم بشعة، ورموز الفساد المستشري، وكوادر منظومة نفوذها الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والإدارية التي أرهقت البلاد.

ثانيًا: القوة الخشنة الرادعة

تتجلى القوة الخشنة في إمكانية إنشاء جيش وطني قوي وموحد، يستوعب في صفوفه جميع المخلصين لسوريا الجديدة، ويقوم على حماية تراب الوطن، والدفاع عن عقيدة الأمة وتراثها العريق وقيمها الأصيلة، ومتشبع بمعاني الانتماء للأمة والذود عن قضاياها العادلة. بالإضافة إلى إنشاء أجهزة أمنية قادرة على صون حرية الإنسان وكرامته وحقوقه الأساسية، وتحصين البلاد من الأعداء المتربصين والخصوم اللدودين، وحماية القيم والأخلاق الرفيعة، ومواجهة جميع أشكال الفساد والانحراف الاجتماعي.

ثالثًا: القوة الناعمة المؤثرة

تتبلور في فرص التحكم بمفاتيح السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والإعلام، وتوجيهها لخدمة الدولة الجديدة، وتكريسها لترسيخ دعائمها، على أن يحكمها دستور عصري يحمي النظام الجديد، ويضع ضوابط للعمل السياسي ضمن شروط وبيئات حاضنة للإبداع والتطوير والتداول السلمي للسلطة، ويَحُول في الوقت ذاته دون تسلل المتسلقين والوصوليين والعناصر الانتهازية، والمال السياسي الفاسد والتدخل الخارجي السافر وأعداء الثورة.

رابعًا: الإرادة الشعبية الجارفة

يمثل النظام الجديد تجسيدًا للإرادة الشعبية العارمة، في حين أن النظام السابق لم يعد يجد من يأسف عليه أو يدافع عنه؛ وهي فرصة ذهبية لإحداث تغييرات جذرية وسريعة، وحسم العديد من القضايا الشائكة ومعالجتها في فترة وجيزة.

خامسًا: الثروة البشرية الهائلة

يزخر الشعب السوري بطاقات وكفاءات متميزة ومتنوعة، وقد استفاد خلال معاناته في بلدان اللجوء من اكتساب مئات الآلاف من القدرات والخبرات القيمة في شتى مجالات الحياة؛ وإن عودتهم الميمونة واستيعابهم في المجتمع، وتوفير بيئات الحرية والإبداع المناسبة لهم، سيساهم في تحقيق قفزات نوعية في مشروع النهوض والارتقاء المنشود.

سادسًا: المغتربون السوريون

تكمن فرص واعدة في الاستفادة ممن يرغب في البقاء من المغتربين السوريين، وخاصة أولئك الذين تحولوا إلى سفراء وناشطين مدافعين عن قضايا بلدهم، ومن تحويلاتهم المالية التي تدعم الاقتصاد الوطني، إذا ما تم إنشاء أنظمة بنكية ومالية شفافة وفعالة، وبيئات استثمار مشجعة وآمنة.

سابعًا: تمتلك سوريا ثروات طبيعية هائلة، وموقعًا استراتيجيًا فريدًا، ومواقع سياحية وأثرية خلابة، وموانئ بحرية حيوية، تمكنها من الوقوف على قدميها بثبات وسرعة كبيرة إذا ما أحسنت استغلالها وتوظيفها على الوجه الأمثل.

ثامنًا: لدى القيادة فرصة سانحة في اجتثاث الفساد من جذوره، خاصة أنه مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنظام السابق وأدواته؛ وبالتالي لن يكون من الصعب بناء منظومة مؤسساتية وإدارية جديدة تتسم بالنزاهة والفاعلية.

تاسعًا: لعل الخبرات القيمة التي اكتسبها الثوار في إدارة منطقة إدلب لعدة سنوات كانت بمثابة "عينة اختبارية" ستدفعهم خطوات حثيثة للأمام في الانتقال لإدارة الدولة، مقارنة بالثورات الأخرى التي تنتقل من العمل الثوري إلى تولي مقاليد الدولة مباشرة، والتي لا تتاح لعناصرها فرصة اكتساب الحد الأدنى من الشروط الضرورية لإدارة شؤون الدولة بكفاءة واقتدار.

تحديات جمة ومخاطر محدقة

تواجه الثورة السورية تحديات جسيمة ومخاطر متعددة الأوجه، يمكن أن تعصف بها وتقوض أركانها إن لم تمتلك الرؤية الواضحة المعالم، والقدرة الفائقة على المبادرة، والمسارعة إلى ملء الفراغ، والتعامل بالجدية والحزم والتروي مع هذه التحديات.

  • أولًا: إعادة تأهيل مؤسسات الدولة المتهالكة والمدمرة التي نخرها الفساد، والارتقاء بمستوى الخدمات وتطوير البنى التحتية المتدهورة، بحيث يحتاج قيامها بالحد الأدنى من أدوارها إلى وقت وجهد كبيرين؛ في الوقت الذي سيمارس فيه الناس ضغوطًا هائلة لتلبية احتياجاتهم الملحة.

بل وسيلجأ أعداء الثورة والانتهازيون المتربصون تحت هذا الغطاء إلى رفع سقف المطالبات الشعبية وتأليب المواطنين، وتضخيم الأخطاء البسيطة؛ وما سكتوا عنه طيلة ستين عامًا تحت نير حكم حزب البعث سيستخدمونه للتشنيع على الثورة والنيل منها إن لم يتحقق في غضون أيام معدودة.

  • ثانيًا: إعادة بناء السلم الأهلي المتين، وعودة ملايين المهجرين واللاجئين إلى ديارهم آمنين، واستعادة حقوقهم المسلوبة، وإعادة إعمار منازلهم المدمرة، وهو ملف شائك ومسؤولية جسيمة تقع على عاتق الدولة.
  • ثالثًا: معالجة الرواسب الطائفية والعرقية البغيضة التي غرسها النظام السابق (ومن قبله الاستعمار الفرنسي) في البيئة الاجتماعية والسياسية السورية؛ والتي ألحقت أضرارًا بالغة بالنسيج الوطني المتماسك، وكرست عناصر الشك وعدم الثقة بين أبناء الشعب الواحد.

وسيسعى بعض المستفيدين من الاستقطاب الطائفي والعرقي المقيت إلى استغلال موجات التحريض العلوي والدرزي والسني والكردي، كما ستسعى قوى خارجية إقليمية ودولية، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني الغاصب، إلى تأجيج نار الفتنة والانقسام الداخلي، وتفجير الأزمات، بل وحتى افتعال أحداث قتل وتفجيرات واغتيالات، للدفع باتجاه تمزيق وحدة البلاد من جديد؛ وصناعة "رموز طائفية" وهمية في مواجهة رموز الدولة، وتهيئة الأجواء الملائمة لفرض حكم ذاتي بشروط تعيق تقدم الدولة وتنال من الهوية الوطنية.

  • رابعًا: الهوية والبوصلة: يبرز هذا التحدي كأحد أبرز التحديات في صياغة مستقبل سوريا الزاهر؛ فصحيح أن الشعب السوري في أغلبيته الساحقة شعب عربي مسلم (ومن لم تجمعه العروبة يجمعه الإسلام، ومن لم يجمعه الإسلام تجمعه العروبة، وكلاهما يجتمعان في الوطن الواحد والتاريخ المشترك والحضارة العريقة واللغة الواحدة).

وصحيح أن الثورة قادتها فصائل إسلامية، غير أن عشرات السنوات الطويلة من الحكم العلماني الدكتاتوري الطائفي، واللجوء السوري بالملايين في بلاد الغربة، قد فتح المجال أمام رؤى متباينة لمستقبل سوريا، تتراوح بين الرؤى الإسلامية والعلمانية أو المزج بينهما بدرجة أو بأخرى، وفي تحديد مكانة سوريا ودورها في محيطها العربي والإسلامي والدولي، وفي مدى انغلاقها المحلي أو انفتاحها الإقليمي؛ خاصة أن التحديات المحيطة بها لن تتركها وشأنها حتى لو أرادت هي نفسها الانزواء على ذاتها.

وستسعى القوى الإقليمية والدولية جاهدة لاستخدام كافة وسائل النفوذ المتاحة لديها لتوجيه بوصلة الحكم بما يتماشى مع مصالحها ومعاييرها الخاصة.

وكما لاحظنا، كانت هذه القضية من أولى القضايا التي تم استغلالها لتحريك الشارع، واندلعت أولى المظاهرات بعد أيام قليلة من انتصار الثورة، مطالبة بشعارات علمانية للدولة، وهو مدخل مثالي للقوى المضادة للثورة، يجد صدى واسعًا ودعمًا قويًا على الصعيدين الإقليمي والدولي.

وقد يظن البعض أن إبقاء حالة الغموض فيه يخدم المصلحة العامة، إلا أن ذلك سيشكل أكبر مدخل لإفراغ الثورة من محتواها الأصيل، وتحريف مسارها الصحيح، وتجاوز أهدافها السامية؛ وسيكون حسم قضية الهوية والبوصلة في إطار ديمقراطي تشاركي منفتح ومستوعب للجميع، أفضل ألف مرة في حشد وتحفيز الغالبية الساحقة من الشعب، وترسيخ دعائم الدولة الجديدة، وتحصين الثورة المباركة، وإسكات أصوات المرجفين والمشككين.

ولعل الأجدر بالنظام الجديد أن يحسم مبكرًا الهوية العربية الإسلامية للدولة، وتناغمها العميق مع دينها الحنيف وتراثها الغني وحضارتها العريقة، وقضايا أمتها وعلى رأسها قضية فلسطين العادلة.

  • خامسًا: الابتزاز السياسي الإقليمي والدولي: ستعاني القيادة الجديدة من هذا الابتزاز السياسي الممنهج بهدف الحصول على "الشرعية" والاعتراف الدولي، والتعامل الطبيعي مع الدولة السورية، وسيسعى عدد من القوى إلى فرض شروط مجحفة على شكل الحكم وطبيعته، بما في ذلك الدستور المرتقب، وإدخال وكلاء لها أو متوافقين معها في الحكومة ومفاصل الدولة الحساسة؛ وهو ما يتطلب الكثير من الحكمة والصلابة من جانب القيادة.
  • سادسًا: التدخل الخارجي الناعم: مع التوجه نحو النظام الديمقراطي والتعددية السياسية المنشودة والانفتاح على الحريات العامة، هناك أنظمة قمعية تخشى من "عدوى" الحرية وتيارات "الإسلام السياسي" على شعوبها وأنظمتها المستبدة، وستلجأ إلى استخدام المال السياسي الفاسد، وأشكال الدعم السياسي والتلميع الإعلامي المضلل لرموز وقوى معينة وتضخيمها، من أجل ركوب الثورة أو القيام بثورة مضادة، وإعادة إخضاع الشعب السوري للمنظومات الفاسدة والمستبدة التي ثار عليها الشعب سابقًا، كما حدث مع عدد من بلدان "الربيع العربي" المشؤوم، وهو ما يصب في نهاية المطاف في خدمة المصالح الغربية والإسرائيلية في المنطقة.
  • سابعًا: التحدي الصهيوني: والتدخل الإسرائيلي المباشر وغير المباشر عسكريًا وأمنيًا، وبالأدوات الخشنة والناعمة المختلفة، يعتبر أحد أبرز المخاطر التي تواجه القيادة الجديدة، حيث سيسعى الصهاينة جاهدين لإضعاف النظام وتقويض أركانه، ووضع معايير "إسرائيلية" صارمة وأسقف أمنية تسعى إلى إبعاد أي مخاطر محتملة على الكيان الغاصب، ومنعه من امتلاك عناصر النهوض والقوة؛ لأن نهضة أي دولة عربية، خاصة في الجوار المحيط بالكيان، تمثل في نظرهم خطرًا استراتيجيًا كبيرًا، حتى لو تجنبت هذه الدولة الدخول في أي مواجهات مباشرة مع الكيان.
  • ثامنًا: الحفترة: ثمة مخاوف حقيقية من أن تقوم أنظمة إقليمية ودولية خبيثة بدعم ظهور "حفتر جديد" في سوريا، وتوفير الدعم اللوجيستي والمالي والعسكري اللازم له، بحيث يكون عنصر انقسام وتفجير للساحة السورية؛ ومن المفترض أن تتعامل الثورة بقوة وحسم وسرعة مع هكذا ظواهر مشبوهة، وتعبئة الوعي الشعبي ضدها، وحرمانها من فرصة النمو والانتشار تحت أي حجج واهية.
  • تاسعًا: التواجد الأميركي والروسي غير الشرعي على الأراضي السورية يمثل تحديًا كبيرًا، والعمل على إزالته وإنهاء مسببات وجوده البغيض، يجب أن يكون على رأس أولويات النظام الجديد.
  • عاشرًا: فلول النظام: ربما أصبحت بقايا النظام البائس، ومجموعات المستفيدين منه والآسفين على زواله في وضع ضعيف ومهزوز، وهاربين مذعورين من غضب الجماهير ومن ضحايا النظام المجرم؛ ولكنهم مع مرور الوقت سيحاولون جاهدين لملمة صفوفهم وإعادة تقديم أنفسهم في شكل أحزاب ورموز وشبكات مصالح خفية، تحاول اختراق النظام الجديد والقفز عليه.. إذ لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا وجود مئات الآلاف من العسكر والأمن وكوادر حزب البعث الفاشي والمستنفعين من النظام السابق، ممن أصبحوا "أيتامًا" بعد سقوط النظام، وممن سيسعون لإعادة تموضعهم، أو ممن سيبحثون يائسين عن رعاة جدد.

وفي الختام، فالشعب السوري العظيم قدم تضحيات جسيمة وقربانًا غاليًا من دماء أبنائه، ومن حقه أن يقطف ثمار تضحياته الغالية، وثمة تجربة جديدة وبناءة تستحق كل التشجيع والدعم. وصحيح أن المخاطر ما تزال كبيرة، لكن الفرص المتاحة غير مسبوقة وواعدة. والسوريون في كل الأحوال لا يملكون رفاهية الاختيارات السهلة، وإن أجواء التفاؤل والثقة المطلقة بالله (مع أخذ الحيطة والحذر اللازمين) يجب أن تسود مسيرتهم، وليس أجواء الإحباط والخذلان.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة